حين غاب السمّي.."صلاح الساير"…
وترك الكلام علينا..!!
في مساءٍ حزينٍ من حزيران، توقفت
الكلمات عن الجري، وأغلق «حزنيار» دفاتره بصمت. رحل صلاح الساير، وترك في الصحف
بياضًا لا يكتبه أحد، وفي البرامج فراغًا لا يُملأ، وفي القلوب سؤالاً لا جواب له:
كيف يرحل من كانت حروفه لا ترحل؟
لم يكن صلاح الساير كاتبًا يُقرأ، بل
كان ذاكرة تمشي على سطور. يُغمض عينيه على شجن الوطن، ويفتحها على الحبر
والميكروفون والكاميرا. يُدوّن، لا ليثبت موقفًا، بل ليقول ما لا يجرؤ كثيرون على
قوله: باحترام، بتهذيب، وبلا صراخ. كان حادّ الرأي… ناعم العبارة. كأنّه ينحت من
الرمل فكرة، ويصوغ من الصمت قصيدة.
رحيل أحد نجوم الثمانينات، أولئك الذين
شكّلوا وعينا وبصيرتنا، لا يُعد غيابًا عاديًا، بل اقتطاعًا من ذاكرتنا الحيّة.
تعلّمنا منهم كيف تُصاغ الكلمة، وكيف يُقدَح الفكر، وكيف تكون القراءة شغفًا لا
عادة. لم يقتصر أثرهم على الكتابة وحدها، بل امتدّ إلى كل حقول الإعلام: من
الإذاعة إلى التلفزيون، ومن خشبة المسرح إلى شاشة السينما. كانوا مدارس تمشي
بيننا، فلما غابوا، كأن قطعة من أرواحنا ذهبت معهم… دون وداع.
ولد في الكويت، لكنه لم يكن ابن حيٍّ أو
جيل، بل ابن وطنٍ بكامله. عاشها بحبره، وغنّاها بأشعاره، وسار معها حيث سار الأمل،
وحين تعثرت مشى أمامها. لم يدّعِ البطولة، ولم يرفع صوته في زحمة الضجيج، بل آمن
أن الكلمة المستقيمة لا تحتاج إلى صوتٍ عالٍ كي تُسمع.
كتب في الصحف آلاف المقالات، وترك في
الناس ألف معنى. من «السايرزم» في الصحف و «حيهلا» في الإذاعة و «فدوة لج» في
المسرح و «الكشاف» في التلفزيون، لم يكن اعلاميا فقط، بل مرآة تعكس وجدان الكويت:
بحرها، جزرها،فرجانها ، بواديها، ناسها، ولهجتها، ودفئها. حتى حين تحدّث عن الإبل،
أو البحر، أو الرمل، كنت تشعر أنه لا يروي عنهم بل عن نفسه.
صلاح لم يكن كاتبًا يُقلِّب الكتب، بل
إنسانًا يقلّب العقول. وحين كتب الشعر، لم يتجمّل، بل تكلّم كما يتكلم الكويتيون
في دواوينهم، وكما يتغزل البدوي بسماء صافية، وكما يخاطب الأب ابنته في لحظة حنان.
حتى اسمه، لم يكن يمرّ عاديًا. كنت
أناديه في وسائل التواصل المتعددة بـ”السمي”، فظنّت قرينته يوما أنه لقب محبة أو
تودد، فصارت تناديه به، تظن أنها تواسيه بلقب يليق بمكانته. ابتسم لها بلطفه
المعهود، وقال: “لا، هذا من باب تشابه الأسماء”. ولم يكن يعلم أن هذا “السميّ”
سيغدو يومًا ذكرى، وأن الاسم وحده لن يكفي لسدّ غياب صاحبه.
رحل الساير
غادر كما يغادر النبلاء: بلا ضجيج، بلا
استئذان. ترك كلماته خلفه تمشي على أرصفة الكويت، تصعد مع صوت المذياع، وتعاكس
-أحيانا كثر - الرأي العام، وتبكي معه «النوارس» التي بكت يومًا على الشاشة.
ولأن الرحيل عادة الحياة، سنقبل الغياب…
لكننا لن نعتاد عليه.
ولأن الكلمات لا تموت، سيبقى «بوخالد»
خالدًا حيًّا… في سطورنا، في ذاكرتنا، وفي كل مرة نقول: “الكلام علينا… والرحمة
لك”.
صلاح الأنصاري
2025/7/1
No comments:
Post a Comment