لايستطيع القلم الاستجابة بسهولة للكتابة عندما يكون الموضوع يدور حول الإنسان الذي كان سبب وجودك على هذه البسيطة. فرعشة القلم إحترام وتقدير كبير ، وحبره دموع حزن لفراق عظيم.
في مثل هذا اليوم السادس عشر من مارس العام الماضي فقدنا الوالد والمربي والمعلم والشيخ الجليل والقائد الحكيم...والدي الشيخ عبدالكريم الأنصاري إمام مسجدي مصعب بن عمير في منطقة القادسية في السبعينيات ومسجد فضالة بن عبيد في بيان في الثمانينات حتى قبل وفاته يرحمه الله رحمة واسعة.
قد تكون الكتابة عن الأشخاص حب وأحيانا تملق ولكنها اليوم لقاء حميم وشوق كبير من الإبن لأبيه ، وإحياء لمآثر وخصال إنسان قلما تجدها في البشر فهي سيرة عنوانها الكفاح والعزيمة وإنتصار لإرادة حديدية لم تنثني يوما.
والدي الحبيب – يرحمه الله- الذي لم يكد يصل الى هذه الحياة حتى فقد والده ولم تمض سوى أشهر حتى فقد نعمة البصر، فقد أذاقته الدنيا من وعثائها في أول عهده بها !
فعاش حالة اليتم والعتمة في أول درجات سلم الحياة ، والحمدلله الذي سخر له عدد من الصالحين رأفوا بحالته فاعتنوا به ، ففي ذلك الزمان الشحيح لم يكن العيش الرغبد والمادة متوفرة كوقتنا الحالي إلا للنخبة من أهل الكويت ، وصعوبة الحياة وشظف العيش كانت ظاهرة للجميع فما بالك بيتيم وكفيف في نفس الوقت ؟!
لله در الكويت التي اعتنت بأبنائها السليم والمعاق ، فقد وجد والدي رحمه الله العناية من الله سبحانه وتعالى من تسخير الطيبين من أهله للإعتناء به ومن الدولة التي احتضنته في مدارسها ومعاهدها الخاصة لمن هم بمثل حالته ، فنشأ على حب العلم والوطن وتعلم العلوم الشرعية الدنيوية وصقل مهارته الفنية اليديوية بأعمال يعجز بعض المبصرين من القيام بها كالنجارة والسباكة وصناعة الأشغال اليدوية ، فشغلت وقته في مواسمه الدراسية صباحا ، وأما مساء وفي أيام العطل الصيفية وغيرها فإرادته وحيويته أبعداه عن الكسل أو الركن الى الراحة كونه معاق بصريا بل أخذ الجد والعمل والمثابرة شعار دائم له فأنشأ "دكانه" الخاص بفريج سعود في الحي القبلي ليكسب من الرزق الطيب ومن عمل يده بل وليعيل أسرته ويعيل حتى أقرانه من الأقارب والأصدقاء الذين أخذوا بمساعدته في هذا العمل حبا لهذا الانسان وطمعا ايضا "بالبيزات " القليلة والرزق الكريم .وبعد أن اشتد عود الرجل وقوي قام بتكوين أسرته الخاصة لستكمل معها معركة التحدي تعينه فيها زوجة صابرة وفية محتسبة الأجر عند ربها.
ثم تأتي أيام الغزو المشئومة لتكشف المحنة عن معادن الرجال الأوفياء لدينهم ووطنهم ، فلم تثنه تحذيرات الجيش الغازي عن فتح المايكروفون في الصلاة بل أكثر من الدعاء عليهم في الصلوات الخمس التي أمّ فيها المصلين بمسجده في منطقة بيان . وأستذكر إصراره العجيب في الصمود بوجه المحتل بعدم التعاون إبتداء بعدم تبديل لوحات السيارات وانتهاء بقرار البقاء والصمود في الكويت وعدم الخروج منها بتاتا وأذكره يرحمه الله حين حمل معنا صور الأمير الراحل ورموز الكويت وعلمها فوق سطح المنزل أثناء الاحتلال حالنا حال شعب الكويت الأبي ورغم أنه لم ير علم الكويت بعينيه ولكنه رآه في قلبه وحفظه بجوارحه حتى تحرر الوطن بفضل الله الذي سخّر العالم أجمع في دحر المعتدي الغاشم فعادت الكويت حرة أبيّة وعادت الحياة وعادت مسيرة البناء .وتمضي السنين ويبدأ المرض تلو المرض يفتك بالجسد الطاهر الذي أنهكه العمل ولعله قدر الله في ابتلاء عباده الصالحون ليزيد من أجرهم وليكفر عنهم سيئاتهم ، ويستمر المرض أربع سنوات متواصلة إلى أن وصل الى غيبا عن الوعي لمدة اسبوع كامل فاضت بعدها الروح الطيبة الى بارئها راضية مرضية بإذن الله تعالى عصر الأربعاء السادس عشر من مارس عام 2005 . لتبقى سيرة الكفاح طوال خمس وستين عاما ، درسا لأبنائه ولأحفاده ونبراسا ينير دروب محبيه ، رحم الله الشيخ عبدالكريم الأنصاري رحمة واسعة ونسأله سبحانه وتعالى أن يسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يرحم أمواتنا وأموات المسلمين وأن يرحمنا اذا صرنا الى ما صاروا إليه والحمدلله رب العالمين وصلي اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
Tuesday, September 26, 2006
مسيرة كفاح
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment