ويستمر قطار الراحلون عن حياتنا الى حياتهم ، ويستمر نزع الأرواح من أرواحنا ، سلسلة لا تنقطع من الفقد ، والغائب تلو الآخر ، أضاف بغيابه ضباب داكن الى دنيا الهموم ، دنيا اللعن...دنيا نعيش فيها لكي نموت....
صباح هذا اليوم تلقيت إيميل من الأستاذ الأديب محمود كرم زميلنا العزيز في موقع يا وطن.... مقال أطفأ في صدري آخر بصيص من النور وبدد آخر أمل لإحسان الظن بدنياكم.... إليكم حروفه التي انتزعت قلبي من جوفه وطرحتني كفن....
زرقة الغياب
الموت صيّاد بهجتنا الشحيحةَ أصلاً ..!! عبر هذه الكلمات البليغة من ضمن رسالة هاتفية ، كان صديقي الشاعر سعد الياسري ، يعزيني في وفاة أمّي الحبيبة التي فارقت الدنيا في الرابع من فبراير من العام 2008 ، وبينما كنتُ حينها أتلاشى حزناً تحت فداحة هذا الرحيل الأليم ، استوقفتني كلمات الياسري تلك ، ألا يكفي أن تكون بهجتنا في الحياة شحيحة أصلاً ، حتى يأتي الموت خاطفاً منا الأجمل على الإطلاق في حياتنا .؟ وكيف يملك الموت كل هذه القسوة الهائلة لينتزع منا أبهى ما نملك في الدنيا .؟ ويتركنا بعد ذلك نرسفُ في عتمة الحزن والأسى ، من دون أن يكترث إلى حالنا ، ومن دون أن يلتفت لحزننا وألمنا ودموعنا ، ومن دون حتى أن يمنحنا فرصة أخيرة للتفاوض معه ..
الموت حياة ثانية ، هكذا ربما أفهمه ، حيث يتركها خلفه الإنسان ماثلةً ونابضة في قلوب محبيه بذاكرة خلابة ، فكما أن الأحياء لهم ذاكرة تركض خلفهم وتطاردهم ، وفي مرات أخرى قد تُسبقهم وقد تتقدمهم بمسافات آجلة ، فكذلك الموتى وهم يرحلون عنا ، يصنعون برحيلهم ذاكرة وامضة ، تبقى في الأبديةِ بارقةً في فراغ اللون وفي فراغ الرائحة ، وفي فراغ المكان وفي فراغ اللحظة ، إنهم يسكبون في كل تلك الفراغات المتوزعة في أطراف زوايا حركتنا اليومية شيئاً منهم ، شيئاً من ألوانهم وضوئهم ورائحتهم وأحاديثهم وأزمانهم وذائقتهم ، إنها الفراغات التي تستحضر بحميمية باذخة مذاق الرائحة وفتنة اللون واشتهاء الحلم وبريق الضوء ، إنهم ينحتون لهم حياةً أبدية تشعُّ التماعاً وبهاءً في ذاكرة الغياب ، ويغدو الغياب في غيابهم لغة تزخر بزرقةٍ باهرة ..
وإذا كان الأحياء يهربون من أنفسهم للخلاص من الألم ، فإنهم في الحقيقة إنما يهربون من الموت إلى الموت ، ومن الألم إلى الألم ، كما يقول الأديب ميخائيل نعيمة ، ولكن كيف هي حال مَن غادروا الدنيا ، إنهم ربما يغادرونها وهم يتركون خلفهم آلامهم وأوجاعهم ركاماً على قارعة الطريق ، إنهم لا يهربون إلى ألم آخر أو إلى وجع آخر هروباً من أنفسهم ، بل يغادرون الحياة إلى سفوح الذاكرة ، وليسَ إلى الموت ، فالموت في حالتهم ، رحيل بعيد إلى أقاصي الذاكرة التي تعرفُ كيف تتجذر حضوراً فاتناً ومشرقاً في فراغ اللون والضوء والرائحة ، وفي فراغ المذاق والزاوية واللحظة ..
في غرفة الانعاش كانت أمّي الحبيبة ممددة هناك ، تفتحُ عينيها تارةً على وجوهنا ، وعلى ما تبقّى من وجوهنا الغائرة عميقاً في تلعثمات الحزن والعتمة ، وتارةً أخرى تغلقهما على الحياة ، وكأنها تصالحت مع الموت ، وكانت تلهثُ باسمي وباسم كل الذين تحبهم ويحبونها ، كانت تنطق بأسمائنا كما لو إنها تريد أن تتأكدَ بأننا أكثر قرباً منها من الموت الذي كان يتربص بأنفاسها بين لحظةٍ وأخرى ، وربما كانت تريد أن تقول لنا وهي تغالبُ بتعبٍ شديد حشرجةً منهكة بأنها إنما تتذكرنا الآن تحديداً ، لأنها لا تستطيع إلا أن تكون مخلصةً لموعدها الأخير معنا ، أليسَ الذين يرحلون في زرقة الغياب البهي يعرفون دائماً بأن لهم موعداً أخيراً مع أحبابهم ، يجب أن يخططوا له جيداً وبما يليق به أيضاً ، وأن يوفوا به ببراعةٍ أنيقة ، بالتأكيد كانت أمّي مخلصة في الايفاء بموعدها الأخير معنا ، وربما لم تكن تريد تأجيله ، ليس لأنها لم تكن تطمحُ في موعد متجدد ، بل ربما لأنها اهتمت بفهرستهِ هكذا على إيقاع قلبها نبضةً تلو نبضة ، وبكثير من الوجع الذي كان ينهشُ في أطرافي ، كنتُ أتمنى وأريد من أمّي في وقتها أن تدفع عن نفسها الموت ، كما كانت من قبل تدفع عن نفسها آلام المرض ..
فهل تستطيع الحياة أن تمنحنا بديلاً عن هذا الفقد ، وهل تملك الحياة أصلاً بديلاً عنه ، هذا الفقد الذي يأتي بحجم غياب امرأةٍ في منزلة الأم ، وألا يعلم الموت أن الأم هي الأم ، وإنها ليست شيئاً آخر ، ولا تستطيع أن تكون شيئاً آخر أقلّ من الأم ، ولكن الموتَ أعمى ، وسيبقى هكذا ، فالموت لا يرى غير الفراغ والعدم أمامه ، إنه لا يرى بياض الضوء في الشمعة ، ولا يرى ارتعاشة البهجة في عناق المحبين ، ولا يرى دهشة اللون في البسمةِ الجذلى ، ولا ينتشي بدفقة العطر في الوردة ، إنه يأتي فارداً لغته وجبروته ، ومتفاخراً بطقوسهِ في استعراضات الغياب المهولة ، ولكن إذا كان الموت يعرفُ كيف يتقصّد جيداً أن يُدحرج دموعنا على دكة الأيام ، فإن أمّي برحيلها خلقتْ في مآقينا برهافةٍ فارهة ، دمعةً ناصعة ، لم تزل تفصحُ عن لغتها الشهية في أبجدية الغياب ..
حينما يتعلق الأمر بالحب ، لا تكون الدموع عورة ، فليسَ ثمة حب بلا دموع ، كما يقول الأستاذ محمد العباس ، صادق وبليغ هذا العباس في مقولته الآنفة ، فالدموع في حضرة الحب العظيم معزوفة خالدة ، وإشراقةٌ تتخلق نقاءً في مهاد الغياب على ايقاع المطر المتساقط من جهة الحب ، أليسَ التي تستطيع أن تمنح الحب الذي لا حد له لأبنائها في حضورها وفي غيابها البعيد ، قادرةٌ في الوقت نفسه على أن تخلق في مآقينا دمعة الامتنان العظيم للحب الذي استزرعته في أعماقنا شاهقاً وأبيضَ في آفاقه وتلويحاته ، إنها الدموع التي لا تستطيع إلا أن تكون فاضحة للحب الذي أطعمتهُ أمّي دائماً من ثمرات قلبها وحنينها وعطفها ودفئها ..
كنتُ هناكَ أحسبني واقفاً ، أسكبُ كلّي حزناً ، بينما كان بعضي يتساقط دمعاً على ثرى أمّيَ المضمخ برائحة الحب ، وكنتُ لحظتها أستجمعُ ما تداعى مني في فراغ سحيق ، عجزتُ تماماً عن ترميم داخلي ، واخترقني عيمقاً وجع الفقد ، لأني أصبحتُ في مواجهتهِ وجهاً لوجه ، فماذا يعني أن تكونَ في مواجهة الفقد .؟ ألا يعني ذلك أن تتضرجَ وجعاً بغياب مَن تحب ، ألا يعني ذلك أن تمتنعَ عن الحلم مجدداً ، وألا يعني ذلك أن تودعَ رغماً عنك في فراغ المكان تلويحتكَ الأخيرة ، وألا يعني ذلك أن تتوقفَ نهائياً عن التمنّي ، لأن الواقع أمامكَ أصبح لا يبصرُ سوى الفقد ، ولأن الواقع هو الآخر أصبح لا يعني سوى الفقد يتكوّم في الفراغ الأصم ، وهل يستطيع الفقد أن يرى نفسه وأن يتكلّم عن نفسه ، وهل يستطيع أن يرينا صورته في وجوهنا .؟ وهل يملك صورة حتى .؟ إنه لا يفعل شيئاً من ذلك ، وإنه لا يستطيع أن يكشف عن غموضه ولغته ، لأنه يأتي فارضاً وجوده القاتم علينا منزوعاً من سلطة الحواس ، ويأتي صاعقاً فوق رؤوسنا بصمته الثقيل الموحش ..
كنتُ هناكَ أتعقّبُ منكسراً تعثرات خطواتي في متاهات هذا الفقد ، أصرخ في داخلي ، وصوتي يتردد متشظياً في فراغ المدى الكتيم : مَن ينقذني من افتراسات هذا الفقد ؟! ومَن ينقذني من وحشةٍ لا تطاق ، ومَن ينقذني من صباحات لا أرى فيها وجه أمّي ؟! ومَن ينقذني من احتشاد المرارات في المساءات المقبلة ؟! ومَن ينقذني من وجهي في مرايا الذكريات البعيدة ، ومَن ينقذني من شهقةٍ تصلبني على عتبات الطريق ؟!
كم هو موجع هذا الفقد ، هكذا عرفناه دائماً ، ولكن حينما أودعتْ أمّي في شهقاتنا بريقاً من ابتسامتها المشرقة وهي ترحل ، عرفتُ أن الفقدَ أصبح خدعة ، ويصبح مجرد خدعة حين لا يستطيع أن يقضم من ذاكرة الحب شيئاً ، وحين يعجز عن أن يسرق تلويحة أمّي المترعة بدفقات الألوان الزاهية ، وحين لا يقوى على أن ينال شيئاً من أشيائها الصغيرة ، من نظارتها الطبية التي تسترخي وادعةً في زاوية البيت ، ومن شالها الذي احتفظت به زوجتي عابقاً برائحتها الودودة الحنونة ..
وقبل أن نغادر ثراها ، وبينما كانت ابنتي فرح تضعُ وردةً ندية هناك تتوسّدُ بدفءٍ وأمان بياض قلب أمّي ، كنتُ أنا أتفرسُ في وجه الغياب مليّاً ، هامساً بين جنباته : ستبقى أمّي فضاء الذاكرة الأشهى ، ننسابُ منه أبداً ونرتحل إليه دائماً ..
بقلم : الكاتب الكويتي: محمود كرم
No comments:
Post a Comment